…الآن أستطيع أن أقول الكثير من الأشياء. نعم الكثير من الأشياء.. أولها أني وجدتني مرميا على سرير في إحدى الغرف. والأنين، أنين الآخرين يطوقني بغلالة من القسوة. ـ كانوا هم ـ أيضا مرميين. عيونهم جاحظة آدميين من مختلف الأعمار كانوا .
فركت عيني مرات متوالية علّي أصدق نفسي مما كنت فيه. اعتقدت وجزمت في ذلك أني في حلم رمادي سينجلي ليله بعد حين.
أطبقت جفني وغصت فيه حتى موعد الانصرام. ويلي! ألن ينقضي الحلم، أم تراني في ليل سرمدي؟ كانت صبابة دوار تعاودني على فترات متباعدة، فتحلق بي في أجواء الغثيان والزفير الحاد والسعال. كان الجسد يضيق بي والمكان. تقفز العيون المجاورة: بعضها يرشقني بسهام اللوم، لأني ـ ربما ـ قد أيقظتها من غمضة حلوة طالما انتظرتها في ليل الألم القاسي… وأخرى تمطرني بزخات حانية علها تهدئ روعي، أو تخفف مما أجد…
الآن أستطيع أن أقول، إني لست في حلم. المشهد يتكرر، ومن حين لآخر، تزورنا مخلوقات بيضاء… يضعون أشياء أمامنا، ويقيدون في سجلات وينصرفون…
حفرت في ذاكرتي المثقوبة بالدوار، فأعدت بعض أقاويل الجدة رحمها الله، ومعلم الصف الابتدائي حول الملائكة: «هم مخلوقات نورانية…» قلت: لاشك أن المخلوقات التي تزورنا منهم. فهم مغلفون بالبياض النوري، لا يتحدثون إلينا، ويكتفون بالتدوين في سجلات كبيرة! إنهم الحفظة الكاتبون. قلت مرة أخرى في قرارة نفسي لابد من تكليمهم للظفر برعاية أكبر. لم أغمض عيني. ظللت أترقب مجيئهم. لكنهم أتوا قبل الموعد. لقد حملوا جاري على نعش أبيض، كانت يداه مرتخيتين وعيناه مسبلتين. انقطع لهاثه القاسي وخمد أنينه. لم يتركوا لي فرصة التملي في طلعاتهم المنيرة حتى، بالأحرى تكليمهم. الآن تيقنت أني في عالم الأموات، وهذا ملاك الموت يتقدم أصحابه بعد أن أنهوا مهمتهم. أما دوري فسيحين بعد حين.
في صباح اليوم التالي، جاء أهلي. عانقوني كثيرا، وثرثروا كثيرا، وبكوا كثيرا، فازداد يقيني أني ميت لاشك.
سألتهم لما أعياني طول الانتظار وإرسال البصر بحثا عن جدتي وكل أقاربي الميتين ممن أعرف، أقنعوني أن هؤلاء موتي. سألوني إن كنت أعاني من ألم ما في رأسي، أو أني قد أصبت بنوبة جنونية من جراء صدمة الخوف في عرض البحر. كنت أجيب باندهاش مما يقولون: لا… لا… وكل ما أستطيع قوله لكم:
ـ إني الآن «حي ميت، أو ميت حي»
أقنعوني كثيرا أني ما زلت حيا أرزق بعد نجاتي من الهلاك. لكني تمسكت برأيي، أني ميت حي.
مرت بي شهور، لا أجالس الناس إلا لماما. أراهم ينظرون إلي بإشفاق. لكن الذي كان يقلقني منهم: أسئلتهم الدامية. كنت دائما أجيب بنفس الإجابات. أصبح كل شيء رتيبا. حتى الكلمات، هذه الحبيبة التي تسعفنا في جيب كهذا الفضاء الشرقي الريفي الظامئ، فضاء الحكي المر والعوز. السؤال الذي ظل يجلدني بصلف:
ـ «كيف حدث لكم وكيف نجوت من الغرق؟»
كنت أردد نفس اللازمة وأمتعض من كثرة أسئلة هؤلاء الأحياء الفضوليين: كل ما أذكره، أننا أدينا ثمن الرحلة للمسمى (….) وغادرنا المكان (…..) في ليلة كان البحر فيها هادئا والقمر مشعا. لم تكن أشياء كثيرة ترهبنا أو تهمنا في ذلك الوقت العصيب، كثمن العبور المرتفع، أو رطوبة البحر، أو مهالكه… كل ما كان يقلقنا، رصاص البحرية الاسبانية، أو ملاحقة شرطة الحدود المغربية. فهمنا الوحيد، حلمنا الأعظم، الرسو على الضفة الأخرى للبحر، تحقيق حلم الآباء:
القضاء على الفقر، منافسة ابن الجيران الذي أصبح يملك كل شيء. أما حلم الأجداد، فذلك شيء صعب المنال، كان أملا فخبا…
تكدسنا في «لانشا» نحن الآدميين بعد أن تجردنا من كل ما يثقل من ملابس، أو يورط في «سين وجيم» الشرطة. ثم احتمينا بأجساد بعضنا البعض وبمتاريس الحلم علها تعطينا زادا من الصبر والتحدي فنخترق عباب المتوسط الوحش.
كل ما أذكره، أننا قطعنا مسافة مهمة حين صاح فينا الملاح:
ـ «أيها الشباب، إن القارب قد أصيب بعطب، والاستمرار في الإبحار معناه: الغرق في الماء». لم يتمالك العابرون / الحارقون أنفسهم وهددوه بالقتل إن لم يتابع رحلته. وأمام الأفواه المتصايحة والأعصاب المتوترة، لم يجد صاحبنا غير الرضوخ لأوامرهم… وكانت الكارثة.
داهمنا الماء من الثقب العريض، لم تنفع معه الدلاء في الإفراغ، ولا محاولات الغلق. تذكرت يومئذ «تيتانيك» وهي تموت قطرة قطرة في قاع البحر، وأنا أحد أولئك الراكبين. عانقت الموت بعينين مفتوحتين. استنجدت بكل الآيات القرآنية والأحاديث والأدعية التي حفظتها أيام الصف، أو تلك التي كانت جدتي ترددها دبر كل صلاة فجر بصوتها المتهدج المتثائب، بلحنها وخطئها. بينما كانت الأصوات المستنجدة الأخرى، تتعالى، وتخفت، ثم تتلاشى في ظلام البحر. حقا، عزيز على المرء أن يعانق الموت ويلثمه بعينين مفتوحتين…
والآن، أستطيع أن أقول لكم: إني ميت حي، وإن كنت الآن بين ظهرانيكم، فبفضل قوة عظيمة انتشلتني من كماشة الموت المر. تصوروا لو أنها لم تتداركني آنذاك، أين سأكون اللحظة؟
طبعا، في بطن الحوت، أو في قبر ذلك العظيم: البحر. ألم أقل لكم أني الميت الحي أو الحي الميت!!
لكم وحدكم أن تحكموا. لكن السؤال الذي لم ينطرح علي: لماذا ركبت أهوال البحر؟
هذا هو الأهم. والإجابة عنه بسيطة. انظروا إلى هذه الجبال القرعاء بأنهارها الذابلة الشفاه، فقد عجزت عن سد رمقنا. ما عادت تلبي كثرة طلبات العيال. نبت الحلفاء أصبح بدوره متجاوزا. لا يهتم بحصره أحد.. أين المفر إذن؟
غريب ما يحدث في هذا العالم، حين تفر الضحية إلى جلادها. بالأمس القريب طردنا الغرب بعد أن استنزف خيراتنا. وها نحن اليوم نروم دياره مختارين. نتسول أمام أفنيته، عارين من كل الأشياء، متجمشين عناء العبور، ولو اقتضى منا كشط جلودنا وإزهاق أرواحنا.
لماذا تجلدونني بهذه الأسئلة القاسية، إن كانت الضحية «تفر من قضاء الغرب إلى قدره»