بكور .......................!

المدينة نائمة، بل غارقة في سبات عميق. ضوء خفيف يتسلل من واجهة زجاجية. اقتربت قليلا منها. طاولات تجثم وراءها. دفعت الباب الأمامي، وجدتني داخل المقهى. ارتميت فوق مقعد بلاستيكي أبيض علَّ هذه الأطراف من الجسد المتعب تجد بصيصا من الراحة. ظل كل شيء ينبض فيّ من رأسي إلى أخمص قدمي، كأن تيارا كهربائيا يسري في أوصالي.
وطردا لصبابة النوم العالقة بأجفاني والمثقلة لرأسي توجهت نحو دروة الماء. غطست وجهي في حفنات مائية، بللت شعر رأسي الواقف، فركت جفني بقوة.
عدت إلى مجلسي، أشرت إلى النادل المتثائب “دوما” بإشارة يفهمونها دلالة على إحضار قهواء سوداء تؤدى برفع اليد وخفضها كأنها تعصر. ارتشفت من سوادها باستمرار علّها توقظ هذا الخامل في رأس أتعبتها عجلات الحافلة الهرمة على طول الطريق المهترئ الملتوي بلا جدوى.
ما زال العياء هو العياء يثقل الجسد، والنوم هو النوم يطبق الأجفان. وضعت رجلي على متاعي تجنبا لكل مداهمة محتملة له وأنا في “سابع نومة” لكن أنى لي ذلك ومشاهد المداهمة تنهمر على دماغي في أشرطة متصلة. فالأيادي الطرية والخشنة تتربص بالغرباء مثلي، ورغيفها منهم. لا شغل لها غير جيوب العابرين: النائمين والغافلين من البدويين خاصة.
أجحظت مقلتي رغما عنهما، جمعت أطرافي. مسحت المكان بدقة. فجأة أسر ناظري جثة هامدة على الطاولة المقابلة. ركزت عليها أكثر. رأس مغبر، مجعد، ملقي على اليدين البارزتي أظافرهما وقد اسودت، بما علق بها من فضلات. شاب في مقتبل العمر، إلا أن عاديات الزمن رسمت عدوانا قاسيا على تضاريس جسده. كان يتملل أحيانا محتميا بخرقة بالية من لسعات البرد، وحين يشتد أوار لسعات الطفيليات تغوص أظافره في مهاوي فيصل الآذان صوت يذكر بمشطي صوف وهما يتلامسان ويحتكان من الأسفل إلى الأعلى بين يدي سيدة ريفية عتيدة. تحتدم اللسعات، تغوص اليد السوداء الناتئة تجرف المساحة. تراها الأعين منتقلة من أعلى إلى الأسفل. تارة تغوص في أذغال القمة فترمي بالقمل على الأرض.
أسرني المشهد أكثر. تعجبت كثيرا من تعايش هذين المخلوقين كل هذا الوقت.
ازداد ارتياد الزبائن. كثرت الطلبات على النادل، تزايد احتجاز الطاولات. علت الجلبة :ضخ القهوة في الكؤوس، رنين الملاعق وتصادم الأطباق. يفتح الشاب عينيه الذابلتين أبدا. ينظر حواليه، يمرق نحو الخارج عبر الباب الموارب كالسهم. برقت صوبه عيون الزبائن في استفسار. أما طاقم المقهى فلم يعره أدنى اهتمام. الظاهر أن احتكاكهم المستمر به قد جعلهم يألفونه، بل صار جزءا لا يتجزأ من فسيفساء الفضاء الواسع والمنفتح دوما.
هوت الشمس الذهبية بلذيذ القبل على المدينة الكسلى في خجل. أرسلت نحو الواجهة الزجاجية للمقهى خيوطا صفراء دمقسية كأنها تلقي تحية صباحية، تعلن انتهاء ليل طويل جثم على الصدور بكوابسه المرة وشياطينه التي لا تنام.بارحت المقهى صوب المحطة لبداية يوم آخر صعب، وفي رأسي انغرست ملايين الأسئلة عن مدينة ناغلة بالآلام والآمال والحيارى والمنبوذين والأغراب في وطن الخير والحق والقانون والأمن والأمان.

كلمات كتبت بالذهب وصدق قائلها

عدد المساهمات : 116 تاريخ التسجيل : 01/01/2012

في الحقيقة لم أجد كلمات لتعبر على مدى اعجابي بهذا الوصف الدقيق لمعانات مع الزمن القاسي
هي كلمات جميلة ومعبرة .....تستحق كل التنويه ....
فشكرا لكي أخي عمر على الطرح الجميل وتصفيقات حارة لكاتب إبن مزكيتام إدريس اليزمي