حكم قول ان الدين يسر

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله على نعمه الكاملة، ومراحمه الشاملة، أحمده حمداً يعيد سالف النعم، ويفيد آنف الكرم، الذي خص وعم. ونشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، شهادة نؤدي حقوقها، ونجتنب عقوقها. ونشهد أن محمداً عبده ورسوله، المبعوث بمكارم الأخلاق، اللهم صلى وسلم عليه تسليماً كثيراً.

اخوانى /تى فى الله : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
وكما تعودت معكم على ان التقى بكم لنتدارس ما يمن الله تعالى علينا به من امر ديننا ، فها انا اليوم التقى بكم مجددا لنتدارس موضوع من الموضوعات التى قد يغفل عنه الكثير منا الا وهو ،، ان الدين يسر
فالكثير من الناس ينظر الى حديث رسول الله : ان الدين يسر من منظور خاطىء ولا يمت للمفهوم الحقيقى للحديث بصلة ،
فكثيرا ما يهم الانسان منا بعمل شىء من الاعمال الصالحة او يريد ان يتقرب الى الله بقريى من القربات او يستجيب لامر من امور الاسلام ، او اراد ان يترك او يتوب من شىء كان يفعله او يعمله على جهل منه بأن هذا الامر قد حرمه الاسلام ، الا ونرى احد الناس من الذين يجهلون معنى هذا الحديث يقف له ناصحا ، ويقول له يا اخى هون على نفسك ان الدين يسر ، وهى نصيحة من جاهل او ساهى او لاهى او رجل بعيد عن الدين ولا يعرف من الدين الا هذه الكلمة ، ان الدين يسر
ونظرا لاهمية هذه الكلمة فى الاسلام و، واهمية هذا الامر اردت ان نتوقف مع هذا الحديث الشريف ، لنستلهم منه الدروس والعظات التى تنفعنا فى دنينا واخرانا ، نعم ان الدين يسر ولكن ، لا افراط وتشديد فى اداء الاعمال ولا تفريط وتهاون بترك العمل بالكلية بحجة ان الدين يسر .
اخوانى واخواتى فى الله :
يقول -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا، وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنْ الدُّلْجَةِ)1
وفي رواية للبخاري: (لَنْ يُنَجِّيَ أَحَدًا مِنْكُمْ عَمَلُهُ) قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (وَلَا أَنَا إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِرَحْمَةٍ، سَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَاغْدُوا وَرُوحُوا وَشَيْءٌ مِنْ الدُّلْجَةِ، وَالْقَصْدَ الْقَصْدَ تَبْلُغُوا)2
وفي رواية لمسلم: (سَدِّدُوا وَقَارِبُوا وابشروا فَإِنَّهُ لَنْ يُدْخِلَ الْجَنَّةَ أَحَدًا عَمَلُهُ) قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (وَلَا أَنَا إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللَّهُ مِنْهُ بِرَحْمَةٍ، وَاعْلَمُوا أَنَّ أَحَبَّ الْعَمَلِ إِلَى اللَّهِ أَدْوَمُهُ وَإِنْ قَلَّ)3
"فإن المشروع المأمور به الذي يحبه الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- هو الاقتصاد في العبادة" "فمتى كانت العبادة تسبب له ضرراً يمنعه عن فعل واجب أنفع له من هذه العبادة ، كانت محرمة، مثل أن يصوم الانسان صوما يسبب له ضعف عن الكسب الواجب أو يمنعه عن العمل ، أو يمنعه عن الجهاد الواجب. فإن صوم النافلة هنا ، يدخل فى دائرة الممنوع ، لانه يمنع عن اداء الواجب الذى فرض على الانسان وكذلك إذا كانت العبادة النافلة توقعه في محل محرم يسبب له ضررا على المدى القريب او البعيد ، مثل أن يتصدق بماله كله، ثم يجلس ويمد يده إلى الناس ويسألهم ويترك ذريته من بعده عالة يتكففون ويسألون الناس . وأما إن ادت هذه النوافل من الطاعات والقربات الى ضعفه وعدم قدرته على اداء عمل هو أصلح منها، وأوقعته في مكروهات، فإنها مكروهة"
اخوانى واخواتى فى الله :/
أن أحب الأعمال إلى الله ما كان على وجه السداد والاقتصاد والتيسير، دون تكلف اوتعسير او تشديد او تفريط او افراط .
وقال ابن رجب الحنبلى- رحمه الله - في معنى: (سددوا وقاربوا): المراد بالتسديد هنا: العمل بالسداد، اى القصد، والتوسط في العبادة فلا يقصر فيما أمر به، ولا يتحمل منها ما لا يطيقه.
و في معنى قوله -صلى الله عليه وسلم- (وابشروا) "يعني أن من مشى في طاعة الله على االقصد والتوسط والمقاربة فليبشر، فإنه يصل ويسبق الانسان الدائب المجتهد في الأعمال. فإن طريق الاقتصاد والتوسط والمقاربة أفضل من غيرها، فمن سلكها فليبشر بالوصول، فإن الاقتصاد والتوسط في السنة خير من الاجتهاد في غيرها. وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم- فمن سلك طريقه كان أقرب إلى الله من غيره. و وقد يظن البعض منا ان الفضائل والدرجات ينالها الانسان بكثرة الأعمال البدنية، وهذا ظن خاطىء ، اذ الدرجات ينالها المرء منا بكون اعماله خالصة لله - عز وجل - صواباً على متابعة السنة، وبكثرة معارف القلوب وأعمالها. فمن كان بالله أعلم وبدينه وأحكامه وشرائعه وله أخوف وأحب وأرجى فهو أفضل ممن ليس كذلك، وإن كان أكثر منه عملاً بالجوارح"5 .
وقد ثبت في الصحيح عَنْ عَوْنِ بْنِ أَبِي جُحَيْفَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: آخَى النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- بَيْنَ سَلْمَانَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، فَزَارَ سَلْمَانُ أَبَا الدَّرْدَاءِ، فَرَأَى أُمَّ الدَّرْدَاءِ مُتَبَذِّلَةً، فَقَالَ لَهَا: مَا شَأْنُكِ؟ قَالَتْ: أَخُوكَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ فِي الدُّنْيَا، فَجَاءَ أَبُو الدَّرْدَاءِ فَصَنَعَ لَهُ طَعَامًا فَقَالَ: كُلْ، قَالَ: فَإِنِّي صَائِمٌ، قَالَ: مَا أَنَا بِآكِلٍ حَتَّى تَأْكُلَ، قَالَ: فَأَكَلَ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ ذَهَبَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَقُومُ، قَالَ: نَمْ فَنَامَ، ثُمَّ ذَهَبَ يَقُومُ، فَقَالَ: نَمْ، فَلَمَّا كَانَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ قَالَ سَلْمَان: قُمْ الْآنَ، فَصَلَّيَا، فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ: إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَأَتَى النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: (صَدَقَ سَلْمَانُ)6.
فينبغي على المسلم الحصيف مراعاة الواجبات والموازنة بينها وأن لا يجتهد المؤمن في جانب ويترك جوانب أخرى من الواجبات التي عليه ، فلا يجتهد فى اداء سنة معينة من السنن ويترك اداء فرض ، كمن يجتهد فى صلاة الليل مثلا وهى سنة ، وهو مع اداء هذه السنة قد يغلبه الارهاق والمشقة والتعب فنراه ينام عن صلاة الفجر ، فنراه اجتهد فى نفل وسنة وترك فرضا يعاقب على تركه من الله تعالى وكان من الاولى له ان يصلى ما شاء من الليل بقدر المستطاع مع عدم العنت والمشقة لكى يقوى على اداء ما افترضه الله عليه من الفرائض ،وليتخذ من حديث رسول الله له نبراسا وضياءا يستضيىء به ، فقد علم ابا الدرداء وعلمنا جميعا بقوله صلى الله عليه وسلم : : إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ
وليعلم المؤمن أن المشقة والعنت والتشدد ليست مقصودة ولا مطلوبة في التكاليف كما قرره علماء الأصول من أهـل السنة ، بل الأصل فى التكاليف هو رفع الحرج والعنت عن الناس. فليس لأحد أن يقصد المشقة طالباً بذلك الأجر. يقول الله تعالى : لا يكلف الله نفسا الا وسعها
" فإذا كان مقصد المكلف إيقاع المشقة والعنت على نفسه وعلى الناس فقد خالف قصد الشارع، من حيث إن الشارع لا يقصد بالتكليف او العبادة او الطاعة المشقة وتحميل الانسان ما لايطيقه ، وكل قصد يخالف قصد الشارع باطل".
والذى يجب علينا معرفته هو أن الله سبحانه ليس رضاه أو محبته في مجرد عذاب النفس وحملها على المشاق، حتى يكون العمل كلما كان أشق كان أفضل، كما يحسب كثير من الجهال أن الأجر على قدر المشقة، في كل شيء، لا !
ولكن الأجر على قدر منفعة العمل، ومصلحته، وفائدته، وعلى قدر طاعة أمر الله ورسوله. فأي العملين كان أحسن واتقن، وصاحبه لله ولرسوله أطوع، وأتبع تابعا لا مبتدعا ، كان أفضل. فإن الأعمال لا تتفاضل بالكثرة او بالقله ، وإنما تتفاضل بما يحصل في القلوب حال العمل فمتى كان العمل خالصا لله تعالى ولا تشوبه شوائب الهوى كان افضل واحسن عند الله تعالى ، وهذه الأمور لا تدرك إلا بالعلم وطلبه، ولذلك ورد في حديث عائشة السابق: (واعلموا) وهو إشارة إلى أهمية العلم النافع الذي يثمر العمل الصالح المقبول.
ومع أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان أشد الناس اجتهاداً في العبادة إلا أنه كان يقول: (خذوا من الأعمال ما تطيقون، فإن الله لا يملُّ حتى تملُّوا، وأحب العمل إلى الله ما داوم عليه صاحبه وإن قل) وقد تقالَّ عبادة النبي -صلى الله عليه وسلم- نفر من أصحابه -صلى الله عليه وسلم- وقالوا: وأين نحن من النبي -صلى الله عليه وسلم- ؟ وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟ فقال بعضهم: أما أنا فأنا أصلي الليل أبدًا، وقال بعضهم: أنا أصوم ولا أفطر، وقال بعضهم: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً، وقال بعضهم: لا آكل اللحم. فبلغ ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- فجاء إليهم فقال: (أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني). والمراد بالسنة الهدي والطريقة لا التي تقابل الفرض، والرغبة عن الشيء اى تركه و الإعراض عنه إلى غيره.
" ثم ختم ذلك بأن المداومة على عمل من أعمال البر ولو كان مفضولاً أحب إلى الله من عمل يكون أعظم أجراً لكن ليس فيه مداومة".
وقوله: (واكلفوا من الأعمال ما تطيقون): (ما تطيقون) أي قدر طاقتكم واستطاعتكم ، والحاصل أنه أمر بالجد والاجتهاد في العبادة والإبلاغ بها إلى حد النهاية، لكن بحيث لا تقع معه المشقة التى تؤدى إلى السآمة والملال".
اخوانى/تى
وأوضح من ذلك وأبلغ إرشاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما إذ قال له: (يا عبد الله بن عمرو! إن لكل عابد شِرة، ولكل شِرة فترة، فمن كانت فترته إلى سنتي أفلح، ومن كانت فترته إلى بدعة خاب وخسر)
وقال بعض السلف: ما أمر الله بأمر إلا وللشيطان فيه نزعتان، إما إلى تفريط وإما إلى مجاوزة، ولا يبالي بأيهما ظفر، زيادة أو نقصاناً.
أيها الإخوة: الأمر خطير فبعض الناس قد لا يفوته علم أو عبادة، ولكن يفوته التوفيق والصواب، استقامة في اقتصاد، وعمل بعد علم، وإخلاص في القلب، ومتابعة للسنة، اقتصاد يعصم عن بدعة التفريط والإضاعة، ويحفظ من حد الغلو والإسراف والمجاوزة.
فاتقوا الله رحمكم الله، واستقيموا إلى ربكم واستغفروه.
اللهم يا رب الأرباب، ويا مسبب الأسباب، ويا أرحم الراحمين، نسألك أن تعيذنا من النار، اللهم أعذنا من النار، واجعلنا ممن يكرم في روضات الجنات. سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب
اخيكم فى الله راجى عفوا الله / ابو بهاء المصرى
امام وخطيب مسجد المختار